كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي هذا الصدد يبين المعذورين إذا تخلفوا، والمعفين من الجهاد لعجزهم عنه، وهو العذر الوحيد: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابًا أليما}..
وبعد هذه اللفتة يعود سياق السورة للحديث عن المؤمنين ومواقفهم وخوالج نفوسهم؛ حديثا كله رضى وشفافية ووضاءة وتكريم؛ وكله بشريات لهذه النفوس الخالصة القوية، البائعة المتجردة. حديثا يتجلى فيه الله جل جلاله على هذه المجموعة المختارة من البشر. يتجلى عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته. ويبلغهم بأشخاصهم وأعيانهم أنه عنهم راض، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكة بعينه: {تحت الشجرة} وأنه اطلع على ما في نفوسهم. وأنه رضيهم ورضي عنهم، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح، وربط هذا كله بناموس الوجود وسنة الوجود. وهو أمر يقف له الوجود كله يشهد ويرقب ويتأثر ويسجل في أطوائه ذلك الحادث العظيم الفريد: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزًا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطًا مستقيمًا وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لوَلوَّا الأدبار ثم لا يجدون وليًا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}.
ويمتن عليهم بأخذ عدوهم النفر الذين أرادوا بهم الأذى؛ ويندد بأعدائهم الذين صدوهم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي أن يبلغ محله، ويتلطف معهم فيكشف لهم عن حكمته في كفهم هذا العام عنهم؛ وفضله في ترضيتهم بما كان، وإنزال سكينته في قلوبهم، لأمر يراه، وهو أعظم مما يرون. وهو فتح مكة ثم هيمنة هذا الدين على الدين كله بأمر الله وتدبيره: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفًا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تَزيَّلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} وتختم السورة بالصفة الكريمة الوضيئة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر، وتفردها بسمتها الخاصة، وتنوه بها في الكتب السابقة: التوراة والإنجيل. وبوعد الله الكريم بالمغفرة والأجر العظيم: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكعًا سُجَّدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرًا عظيما} وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة واضحة، تعيش في جوها الذي نزلت فيه، وتصوره أقوى تصوير، بأسلوب القرآن الخاص الذي لا يفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها؛ ولكنه يأخذ منها لمحات توجيهية وتربوية؛ ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة الشاملة. والموقف الخاص بالأصل الكوني العام. ويخاطب النفوس والقلوب بطريقتة الفذة ومنهجه الفريد.
ومن سياق السورة وجوها، وبالموازنة بينها وبين إيحاءات سورة محمد التي قبلها في ترتيب المصحف؛ يتبين مدى ما طرأ على الجماعة المسلمة في موقفها كله من تغيرات عميقة، في مدى السنوات الثلاث، التي نرجح أنها تفرق بين السورتين في زمن النزول. ويتبين مدى فعل القرآن الكريم، وأثر التربية النبوية الرشيدة لهذه الجماعة التي سعدت بالنشوء والنمو في ظلال القرآن، وفي رعاية النبوة.
فكانت ما كانت في تاريخ البشرية الطويل.
واضح في جو سورة الفتح وإيحاءاتها أننا أمام جماعة نضج إدراكها للعقيدة، وتجانست مستوياتها الإيمانية، واطمأنت نفوسها لتكاليف هذا الدين؛ ولم تعد محتاجة إلى حوافز عنيفة الوقع كي تنهض بهذه التكاليف في النفس والمال؛ بل عادت محتاجة إلى من يخفض حميتها، وينهنه حدتها، ويأخذ بزمامها لتستسلم للهدوء، والمهادنة بعض الوقت، وفق حكمة القيادة العليا للدعوة.
لم تعد الجماعة المسلمة تواجه بمثل قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} ولا بمثل قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} ولم تعد في حاجة إلى حوافز قوية للجهاد بالحديث عن الشهداء وما أعد الله لهم عنده من الكرامة؛ ولا بيان حكمة الابتلاء بالقتال ومشقاته كما في سورة محمد إذ يقول الله تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم} إنما صار الحديث عن السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين، أو أنزلها عليهم. والمقصود بها تهدئة فورتهم، وتخفيض حميتهم، واطمئنان قلوبهم لحكم الله وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم في المهادنة والملاينة، وعن رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة. وكانت هذه الصورة الوضيئة في نهاية السورة للرسول ومن معه.
أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيما} فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة. والإشارة إلى النكث جاءت بمناسبة الحديث عن الأعراب المتخلفين، وكذلك الإشارة إلى المنافقين والمنافقات فهي إشارة عابرة، تدل على ضعف موقف هذه الطائفة، وعلى خلوص الجماعة المسلمة بالمدينة ونضوجها وتجانسها. وهي على كل حال إشارة عابرة لا تشغل من السورة شيئًا مما شغله الحديث عن المنافقين في سورة محمد، حيث كان للمنافقين شأنهم هم وحلفاؤهم اليهود. وهذا تطور آخر في موقف الجماعة المسلمة من ناحية موقفها الخارجي يساير ذلك التطور الذي تم في نفوسها من الداخل.
وواضح كذلك قوة المسلمين بالقياس إلى قوة المشركين في جو السورة كلها وفي آيات بنصها؛ والإشارات إلى الفتوح المقبلة، وإلى رغبة المخلفين في الغنائم السهلة واعتذارهم، وإلى ظهورهذا الدين على الدين كله.. كلها تشي بما بلغت إليه قوة المسلمين في هذه الفترة بين نزول السورتين.
ففي حقيقة النفوس، وفي حال الجماعة، وفي الظروف المحيطة بها، حدث تطور واضح، يدركه من يتلمس خط السيرة في النصوص القرآنية.
ولهذا التطور قيمته كما أن له دلالته على أثر المنهج القرآني والتربية المحمدية، لهذه الجماعة السعيدة الفريدة في التاريخ. ثم إن لهذا التطور إيحاءه للقائمين على الجماعات البشرية. فلا تضيق صدورهم بالنقص فيها والضعف ورواسب الماضي ومخلفاته، وآثار البيئة والوسط، وجواذب الأرض، وثقلة اللحم والدم.. وكلها تبدو في أول العهد قوية عميقة عنيفة. ولكنها مع المثابرة والحكمة والصبر على العلاج، تأخذ في التحسن والتطور. والتجارب والابتلاءات تعين على التحسن والتطور، حين تتخذ فرصة للتربية والتوجيه. وشيئًا فشيئًا تخف ثقلة الطين، وتشف كثافة اللحم والدم، وتتوارى آثار البيئة، وتصفو رواسب الماضي، وتستشرف القلوب آفاقًا أعلى فأعلى، حتى ترى النور هنالك على الأفق الوضيء البعيد. ولنا في رسول الله أسوة حسنة، ولنا في المنهج القرآني صراط مستقيم.
{إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا وينصرك الله نصرًا عزيزا}..
تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله صلى الله عليه وسلم: فتح مبين. ومغفرة شاملة. ونعمة تامة. وهداية ثابتة. ونصر عزيز.. إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه. والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته. والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية. والثقة العميقة بالرعاية الحانية.. يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها. وتبرك الناقة، ويتصايح الناس: خلأت القصواء. فيقول: «ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».
ويسأله عمر بن الخطاب في حمية: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فيجيبه: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني». ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم». ويدعو الناس إلى البيعة، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا.
وكان هذا هو الفتح؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة:
كان فتحًا في الدعوة. يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه. ولقد دخل في تينك السنتين (بين صلح الحديبية وفتح مكة) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله.
ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
وكان فتحًا في الأرض. فقد أمن المسلمون شر قريش، فاتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي- بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة- وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام. وقد فتحها الله على المسلمين، وغنموا منها غنائم ضخمة، جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن حضر الحديبية دون سواهم.
وكان فتحًا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها. يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه: (سيرة الرسول. صور مقتبسة من القرآن الكريم):
ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق. بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده، أو بالأحرى من أعظمها. فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما، واعتبرت النبي والمسلمين أندادًا لها، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة. ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر. وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون. بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه.
ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل، وأيده في القرآن، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه. إذ قووا في عيون القبائل، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتًا وشأنهم ضآلة، وإذ صار العرب يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم من أنحاء قاصية، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها، وكان في ذلك النهاية الحاسمة، {إذ جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا} ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك- إلى جانب هذا كله- فتح آخر.
فتح في النفوس والقلوب، تصوره بيعة الرضوان، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن. ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة: {محمد رسول الله والذين معه} فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه، وله دلالته، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ.
ولقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة. فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه. فرح بالفتح المبين. وفرح بالمغفرة الشاملة، وفرح بالنعمة التامة، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم. وفرح بالنصر العزيز الكريم. وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل. وقال- في رواية: «نزل عليّ البارحة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها». وفي رواية: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس». وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته. فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة، تقول عنها عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه، فقالت له عائشة- رضي الله عنها- يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟».
ذلك الافتتاح كان نصيب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ ثم مضى السياق يصف نعمة الله على المؤمنين بهذا الفتح، ومس يده لقلوبهم بالسكينة، وما ادخره لهم في الآخرة من غفران وفوز ونعيم:
{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليمًا حكيمًا ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزًا عظيمًا}..
والسكينة لفظ معبر مصور ذو ظلال؛ والسكينة حين ينزلها الله في قلب، تكون طمأنينة وراحة، ويقينًا وثقة، ووقارًا وثباتًا، واستسلامًا ورضى.
ولقد كانت قلوب المؤمنين في هذه الواقعة تجيش بمشاعر شتى، وتفور بانفعالات متنوعة. كان فيها الانتظار والتطلع إلى تصديق رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول المسجد الحرام؛ ثم مواجهة موقف قريش وقبول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجوع عن البيت في هذا العام، بعد الإحرام، وبعد إشعار الهدي وتقليده. كان هذا أمرًا شاقًا على نفوسهم ما في ذلك ريب. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه جاء أبا بكر وهو مهتاج، فكان مما قال له غير ما أثبتناه في صلب رواية الحادث:
أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال أبو بكر- الموصول القلب بقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينبض قلبه على دقات قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به. فتركه عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له فيما قال: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال- صلى الله عليه وسلم: بلى. أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟. قال: لا. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به. فهذه صورة مما كان يجيش في القلوب..
وكان المؤمنون ضيقي الصدور بشروط قريش الأخرى، من رد من يسلم ويأتي محمدًا بغير إذن وليه. ومن حميتهم الجاهلية في رد اسم الرحمن الرحيم. وفي رد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي أن عليًا رضي الله عنه أبى أن يمحو هذه الصفة كما طلب سهيل بن عمرو بعد كتابتها، فمحاها رسول الله بنفسه وهو يقول: «اللهم إنك تعلم أني رسولك».